«شبابيك شبابيك الدنيا كلها شبابيك والسهر والحكاية والحواديت كلها دايرة عليك»
يقول الكاتب عمر طاهر عن ألبوم «شبابيك»، إنه له وقع السحر، فكلما استمعت إليه جاد عليك بكنز جديد، وسر من أسراره، وبالتحديد في أغنيته الرئيسية «شبابيك» للكاتب مجدي نجيب.
لا يمكنك أن تصنف مزيكا «شبابيك» بأنها الأفضل في التاريخ، ولا الكلمات كذلك، لكنهما خليط عجيب مصحوب بصوت منير الشجي، فما تلبث أن تستمع إليه مرة حتى يأسرك في شباكه، لدرجة أنه قد يتخطى كل ذلك، ويصير محملاً بمشاهد وروائح وشخوص، كلهم ارتبطوا بك وقت سماعها.
يُعرف علماء النفس تلك الحالة التي قد تخلقها «شبابيك» وأياً ما شابهها بالـ«نوستالجيا»- الحنين إلى ماضٍ مثالي- وهي بالأساس آلية دفاع يستخدمها العقل لتحسين الحالة النفسية، خصوصاً عندما نواجه صعوبات في التكيف وعند الشعور بالوحدة.
في كرة القدم يمكننا ذكر مئات الحالات التي تدخل ضمن تعريف النوستالجيا تلك، والآن ماذا عن رحلة من رحلات نوستالجيا كرة القدم، ومعها في الخلفية «شبابيك» منير؟ عرض مغرٍ أليس كذلك.
إذاً هيا بنا في رحلة لكوكب ميمي الشربيني، سلطان التعليق العربي.
«غيرت ياما كتير ياما كتير أحوالي، وأنا كنت عاشق، عاشق وكان يحلالي»
بدأت حدوتة محمد عبداللطيف الشربيني في شوارع المنصورة، في 26 يوليو عام 1937 تحديداً، لأسرة متوسطة الحال تقتات على الزراعة والتجارة، وتورثها بعضها بعضاً، لكن ميمي كما أطلق عليه أقرانه أحب الموسيقى، وسعى جاهداً لتعلمها، وفي خضم ذلك عشق كرة القدم، فقرر تغيير الحال لها، وسعى إلى أن تكون ألحانه مرتبطة بها لاعباً ثم معلقاً.
لم يتسنَ لميمي فرصة حقيقية لممارسة كرة القدم، لكن في جامعة القاهرة، وتحديداً في إحدى مباريات كلية التجارة، التقطته أعين عبده البقال كشاف الأهلي، الذي قرر أن هذا اللاعب سيكون رهانه القادم.
قام البقال باختباره في مباراة ودية داخل أروقة النادي، ثم طلب على الفور من سكرتير الكرة التعاقد مع اللاعب، وهنا سمع مسئولو الزمالك بالصفقة، فعرضوا عليه مبلغاً أكبر من نظيره في الأهلي، لكن فطنة عبده البقال منعتهم من خطف ميمي، ثم بدأ المشوار.
لم يكن ميمي اللاعب الأشهر في الأهلي حينذاك؛ نظراً لمزاملته من هم أكثر جماهيرية منه، وعلى رأسهم المايسترو صالح سليم ومحمود الجوهري.
لكن «النفاثة» كما لقبه جمهور الأهلي بسبب سرعته سطرّ تاريخاً حافلاً في الفترة ما بين 1953 و1970 مع الأهلي والمنتخب، إذ فاز بأربعة ألقاب للدوري المصري وثلاثة ألقاب كأس مصر، وعلى مستوى المنتخب حقق بطولة أفريقيا عام 1959.
انتهت رحلة ميمي في الملاعب عام 1970، لكنها لم تكن آخر عهده بكرة القدم، فمنذ هذا التاريخ بدأت الحدوتة الأهم في علاقة ميمي باللعبة، وعلاقة الجمهور به.
كابتن محمد عبد اللطيف الشربيني الشهير بميمي الشربيني
«ولا حد شاف فين مكاني ورا الشبابيك»
من وراء الشبابيك بدأت قصة جديدة لميمي مع كرة القدم، سبقها جولة صغيرة في عالم التدريب، حيث تولى قيادة منتخب الإمارات لمدة قصيرة، ثم تذكر ولعه بالموسيقى، فقرر الرجوع إليها، لكن بشكل مختلف وذلك من خلال التعليق الرياضي.
معرفة وتدريب ممنهج وغزارة معلوماتية وثقافة رياضية، تلك هي المميزات التي قد تميز معلقاً عن آخر هذه الأيام، هذا إضافة إلى نبرة صوته، ومدى قبول الجماهير لها وله، لكن ميمي صنع عالماً خاص به، رغبة منه في أن يجد لنفسه مساحة في الصف الأول بين المذيعين.
اتكأ ميمي في ذلك على شاعريته ولزماته غير المفتعلة، وكذا على خلط الكاريزما في الإلقاء بالمجهود الشخصي في البحث والاطلاع، عن طريق قيامه بعمل أرشيف صحفي خاص به، يمكنه من تدقيق أرقامه ومعلوماته.
مزج ميمي خفة الدم بقدرته على الارتجال إلى جانب الدراية بقوانين اللعبة لتبسيطها للمشاهدين، دون استغراق ثقيل، فكانت المدخل نحو «قماشة تانية» من مصطلحات التعليق الرياضي، لم يكن لها سابقة وجود في عالم التعليق العربي.
«أنا بعت الدموع، الدموع والعمر»
أقف مراراً عند تلك الشطرة من الأغنية متعجباً، من أين أتى مجدي نجيب بهذا التشبيه، هل هو اقتباس قرأه ذات يوم أم فتح إلهي؟ دون بحث أميل دائماً إلى تصديق الأخير، لاعتقادي أن الكلمات هي من تبحث عن كاتبها وليس العكس، وهو بالتحديد ما شعرت به فيه مصطلحات ميمي.
كيف سولت له نفسه أن يصف هداف ما بأنه مواليد منطقة الجزاء، من أين أتى بتشبيه كهذا، هنا أتذكر عديداً من أحاديث كتاب عظماء مثل نجيب محفوظ وأسامة أنور عكاشة، عن فضل مخالطة الناس في الحواري والمقاهي على لغوياتهم، وهو ما يجعلنا نطلق على ميمي «أديب المعلقين».
«صاحب الرئات الثلاث، الجنرال حظ، المارشال توفيق، مربّع العمليات، ضربات المعاناة الترجيحية، أشغال كروية شاقة، إكسترا مهارات، نصف وزنه إرادة، يتقمص شخصية بابا نويل الكرة، يرتدي قفاز الإجادة، يحمل أختام الجبهة اليسرى، يفرض نفوذه وسيطرته على مملكة الهدافين، العارضة تتزحزح سنتيمترات، زاوية مغلقة بالشمع الأحمر، وأحد المطبات الكروية الصعبة» كل تلك المصطلحات التي تتكرر إلى اليوم، هي براءة اختراع لميمي الشربيني، والتي صارت في ما بعد مدرسة باسمه.
تخرج منها حمادة إمام ومحمود بكر، وبمجرد انتهاء هذا الجيل من المعلقين، عاد المعلقون الجدد إلى الناحية المعلوماتية لأنها ببساطة زاوية سهلة، كل ما تحتاجه هو جمع وتدقيق المعلومات وتدوينها لتكون رفقة المعلق أثناء المباراة، وما إن تنتهي ستجد المعلق يغرق في الإسهاب دون فائدة تذكر.
أما في كراسة ميمي فكانت هناك ضوابط طيلة الوقت، كانت شريكاً رئيسياً في بروزة ميمي كأسطورة من أساطير التعليق
«وقلت أنا عاشق، سقوني كتير المر ورا الشبابيك»
دخل ميمي عالم التعليق الرياضي وهو محسوب على طرف الأهلي، ولا يخفى على الجميع عشقه له، وككل عاشق قد يسقيه العشق من مرارته، ذاق ميمي مر الحكم عليه مسبقاً بعدم الحيادية، من جماهير الفرق المنافسة للأهلي، لكن نزاهته التي تمتع بها حصنته من شبهة الانحياز، وأخرجته من هذه الدائرة التنافسية الضيقة ليكون معلق المصريين جميعاً.
لم يقع الشربيني أيضاً في فخ الإسهاب في اللازمات، لكن عمد قبل كل لقاء إلى تجهيز التعبيرات والتدوينات الشعرية والطريفة والمعلومات الأساسية في «كراسة» يحملها كمرشد له، ولا يستخدمها إلا عند الحاجة إليها فقط، وهو ما جعل الجماهير تنتظر تعليقه على المباريات كانتظار المباراة نفسها.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل امتد إلى إعجاب الجمهور بشكله، وتتبع قصة حياته.
«طرحت جنايني في الربيع، في الربيع الصبر»
فوضوي كما كان يُطلق عليه، شخص غريب الأطوار بملابس مميزة، تذكرني طيلة الوقت بكافة الشخصيات التي اعتمدت على ملابس غريبة الشكل من أجل خلق هوية لها، لكن الغريب أن ميمي لم يكن بطلاً أمام الكاميرات حتى يتعمد أن يرتدي مثل هكذا ملابس، لكنها رفقة طريقة تصفيف شعره التي لا تخلو من الغرابة، جعلته في مصاف هؤلاء.
كانت مشاركته في فيلم «السيد أبو العربي» وصل لهاني رمزي بمثابة تتويج لهذا الكاركتر الذي رسمه ميمي بعناية، لكنها أبداً لم تكن اللقطة التي ستخلده في ذاكرة الناس، بل سيخلد كصنايعي خالد من صنايعية التعليق الرياضي، وعنواناً للنوستالجيا، التي تعيدهم على أجنحة الاشتياق إلى مباريات أسطورية وذكريات حميمية وأيام لا تُنسى، ككل مرة سمعت وستسمع فيها «شبابيك»، وهذه المرة لا بد أن تقف عندما يغني منير:
«طرحت جنايني في الربيع، في الربيع الصبر»
وتتذكر ذاك الرجل الذي طرحت مصطلحاته في التعليق في جناين التعليق العربي، ولا تزال خالدة إلى الآن رغم غيابه عن الساحة منذ أكثر من عقد ونصف.